فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} إلى آخر السورة.
قيل: إنه نزل في أبي جهل.
وقيل: نزلت السورة كلها في أبي جهل؛ نهى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؛ فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد ويقرأ باسم الرب.
وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل.
ويجوز أن يكون خمس آيات من أوّلها أوّل ما نزلت، ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بضم ذلك إلى أوّل السورة؛ لأن تأليف السور جرى بأمر من الله.
ألا ترى أن قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] آخرُ ما نزل، ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل.
و(كلا) بمعنى حَقًّا؛ إذ ليس قبله شيء.
والإنسان هنا أبو جهل.
والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان.
{أَن رَّآهُ} أي لأن رأى نفسه {استغن} ى؛ أي صار ذا مال وثروة.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه، قال: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى؛ فاجعل لنا جبال مكة ذهباً، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك.
قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد خيِّرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه: فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة. فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك؛ فكفَّ عنهم إبقاء عليهم. وقيل: {أَن رَآه استغنى} بالعشيرة والأنصار والأعوان.
وحذف اللام من قوله: {أن رآه} كما يقال: إنكم لَتَطْغَون إن رأيتم غِناكم.
وقال الفراء: لم يقل رأى نفسه، كما قيل قتل نفسه؛ لأن رأى من الأفعال التي تريد اسماً وخبراً، نحو الظن والحِسبان، فلا يقتصر فيه على مفعول واحد.
والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجاً، ومتى تظنك خارجاً.
وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن ابن كثير {أن رأهُ استغنى} بقصر الهمزة.
الباقون {رآه} بمدّها، وهو الاختيار.
{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرجعى (8)}
أي مرجع مَن هذا وصْفُه، فنجازيه.
والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر؛ يقال: رجع إليه رجوعاً ومَرْجعاً، ورُجْعَى؛ على وزن فُعَلى.
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى} وهو أبو جهل {عَبْداً} وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن أبا جهل قال: إنْ رأيت محمداً يصلِّي لأَطأَنّ على عنقه؛ قاله أبو هُريرة.
فأنزل الله هذه الآيات تعجباً منه.
وقيل: في الكلام حذف؛ والمعنى: أَمِنَ هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة.
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الهدى (11) أَوْ أَمَرَ بالتقوى (12)}
أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة، أليس ناهيه عن التقوى والصلاة هالكاً؟!
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وتولى (13) أَلَمْ يعلم بِأَنَّ اللَّهَ يرى (14)}
يعني أبا جهل كذّب بكتاب الله عز وجل، وأَعْرض عن الإيمان.
وقال الفرّاء: المعنى {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} وهو على الهدى، وآمر بالتقوى، والناهي مكذِّب متولّ عن الذكر؛ أي فما أعجب هذا ثم يقول: وَيْلَه! ألم يعلم أبو جهل بأن الله يرى؛ أي يراه ويعلم فعله؛ فهو تقرير وتوبيخ.
وقيل: كل واحد من {أرأيت} بدل من الأوّل.
و{أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} الخبر. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} إلَى آخرِ السورةِ نَزَلَتْ في أبي جَهْلٍ، وذلكَ أنَّه طَغَى لِغِنَاهُ وكثرةِ مَنْ يغشى ناديه، فَنَاصَبَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونَهَاهُ عَنِ الصلاةِ في المسجدِ، وقال: لَئِنْ رأيتُ محمداً يسجُدُ عند الكعبةِ لأَطأَنَّ عنقَه، فيُرْوَى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّ عليه القول وانْتَهَرَهُ، وعبارةُ الداووديّ: فَتَهَدَّدَهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فَقال أبو جهل: أتُهَدِّدُني؟ أما واللَّه إني لأكْثَرُ أهْلِ الوادِي نَادِياً فَنَزَلَتْ الآيةُ، انتهى.
و{كَلاَّ} ردُّ على أبي جهلٍ، ويتَّجِه أَنْ تَكُونَ بمعنى: حقًّا، والضميرُ في {رَّءَاهُ} للإنسانِ المذكورِ، كأنَّه قال: أن رأَى نفسَه غَنِيًّا وهِي رُؤْيَةٌ قَلْبِيَّةٌ؛ ولذلكَ جازَ أن يَعْمَلَ فعلُ الفاعِل في نفسِه؛ كما تقول: وجَدْتُنِي وَظَنَنْتُنِي، ثم حقَّرَ تعالى غِنَى هذا الإنسان وحالَه بقوله: {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} أي: بالحَشْرِ والبعثِ يومَ القيامةِ، وفي هذا الخبرِ وعيدٌ للطاغينَ من الناسِ، ثم صرَّح بذكْرِ النَّاهِي لمحمدٍ عليه السلام، ولا خِلاَفَ أن الناهِيَ أبو جهلٍ، وأن العَبْدَ المصلّيَ هو محمدٌ عليه السلام.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} إكمالٌ للتوبيخِ والوعيدِ بحسْبِ التوقيفاتِ الثَّلاثِ، يَصْلُحُ مَعَ كل واحد منها.
* ت *: وفي قوله تعالى: {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} مَا يُثِير الهِمَمَ الرَاكِدَةَ، وَيُسِيلُ العيونَ الجَامِدَةَ، ويَبْعَثُ على الحياء والمراقبةِ، قال الغزالي: اعلمْ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ على ضميرِكَ، ومشرفٌ على ظاهِرك وباطنِك، فَتَأَدَّبْ أيها المسكينُ ظَاهِراً وباطِناً بين يديه سبحانه؛ واجتهدْ أن لا يَرَاكَ حيثُ نَهَاكَ وَلاَ يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، ولاَ تَدَعْ عَنْكَ التفكرَ في قُرْبِ الأجلِ، وحلولِ الموتِ القاطِع للأملِ، وخروجِ الأمْرِ من الاختيَارِ، وحصولِ الحَسْرَةِ والنَّدَامةِ بطُولِ الاغترارِ، انتهى. اهـ.

.قال الألوسي:

{كَلاَّ} ردع لمن كفر من جنس الإنسان بنعمة الله تعالى عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وذلك لأن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل كلا كان ردعاً للإنسان الذي قابل تلك النعم لجلائل بالكفران والطغيان وكذلك التعليل بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان ليطغى} أي ليتجاوز والحد في المعصية واتباع هوى النفس ويستكبر على ربه عز وجل وقال الكلبي أي ليرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والعطام وغيرهما وليس بذاك وقدر بعضهم بعد قوله تعالى: {مَا لَمْ يعلم} [العلق: 5] ليشكر تلك النعم الجليلة فطغى وكفر كلا وقيل {كلا} بمعنى حقاً لعدم ما يتوجه إليه الردع والزجر ظاهراً فقوله سبحانه: {إِنَّ الإنسان} إلخ بيان لما أريد إحقاقه وهذا إلى آخر السورة قيل نزل في أبي جهل بعد زمان من نزول الآيات السابقة وهو الظاهر ومع نزوله في ذلك اللعين المراد بالإنسان الجنس.
وقوله سبحانه: {أَن رَّءاهُ استغنى} مفعول من أجله أي يطغى لأن رأى نفسه مستغنيا علي أن جملة {استغنى} مفعول ثان لرأى لأنه بمعنى علم ولذلك ساغ كون فاعله ومفعوله ضميري واحد نحو علمتني فقد قالوا إن ذلك لا يكون في غير أفعال القلوب وفقد وعدم وذهب جماعة إلى أن رأى البصرية قد تعطى حكم القلبية في ذلك وجعلوا منه قول عائشة لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الاسودان وأنشدوا:
ولقد أراني للرماح دريئة ** من عن يميني تارة وأمامي

فإذا جعلت رأي هنا بصرية فالجملة في موضع الحال وتعليل طغيانه برؤيته لا بنفس الاستغناء كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الأرض} [الشورى: 27] للايذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد على الأول ومجرد رؤيته ظاهر الحال من غير روية وتأمل في حقيقته على الثاني وعلى الوجهين المراد بالاستغناء الغني بالمال أعني مقابل الفقر المعروف وقيل المراد أن رأى نفسه مستغنياً عن ربه سبحانه بعشيرته وأمواله وقوته وهو خلاف الظاهر ويبعده ظاهر ما روى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبريل عليه السلام فقال إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء ابقاء عليهم.
وقرأ قنبل بخلاف عنه {أن رأه} بحذف الألف التي بعد الهمزة وهي لام الفعل وروى ذلك عنه ابن مجاهد وغلطه فيه وقال إن ذلك حذف لا يجوز.
وفي (البحر) ينبغي أن لا يغلطه بل يتطلب له وجهاً وقد حذفت الألف في نحو من هذا قال:
وصاني العجاج فيمن وصني

يريد وصاني فحذف الألف وهي لام الفعل وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم أصاب الناس جهد لوتر أهل مكة وهو حذف لا ينقاس لكن إذا صحت الرواية وجب القبول فالقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها.
وقوله تعالى: {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطغيان والخطاب قيل للإنسان والالتفات للتشديد في التهديد وجوز أن يكون الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم والمراد أيضاً تهديد الطاغي وتحذيره ولعله الأظهر نظراً إلى الخطابات قبله و{الرجعى} مصدر بمعنى الرجوع كالبشرى والألف فيها للتأنيث وتقديم الجار والمجرور عليه للقصر أي أن إلى ربك رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره سبحانه استقلالاً أو اشتراكاً فترى حينئذ عاقبة الطغيان وفي هذه الآيات على ما قيل ادماج التنبيه على مذمة المال كما أن في الآيات الأول إدماج التنبيه على مدح العلم وكفى ذلك مرغباً في الدين والعلم ومنفراً عن الدنيا والمال.
وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} ذكر لبعض آثار الطغيان ووعيد عليها ولم يختلف المفسرون كما قال ابن عطية في أن العبد المصلي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والناهي هو اللعين أبو جهل فقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى لئن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ليفعل فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً» وأنزل الله تعالى: {كلا أن الإنسان} [العلق: 6] إلى آخر السورة وقول الحسن هو أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة لا يكاد يصح لأنه لا خلاف في أن إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه كان بالمدينة بعد الهجرة كما أنه لا خلاف في أن السورة مكية نعم حكم الآية عام فإن كان ما حكي عن أمية واقعاً فحكمها شامل له والصلاة التي أشارت إليها الآية كانت على ما حكى أبو حيان صلاة الظهر وحكي أيضاً أنها كانت تصلي جماعة وهي أول جماعة أقيمت في الإسلام وأنه كان معه عليه الصلاة والسلام أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما فمر أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال له يا بني صل جناح ابن عمك وانصرف مسروراً وأنشأ يقول:
إن علياً وجعفراً ثقتي ** عند ملم الزمال والكرب

والله لا أخذ النبي ولا ** يخذله من يكون من حسبي

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ** أخي لأمي من بينهم وأبي

وفي هذا نظر لأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء بلا خلاف وادعى ابن حزم الإجماع على أنه كان قبل الهجرة بسنة وجزم ابن فارس بأنه كان قبلها بسنة وثلاثة أشهر وقال السدي بسنة وخمسة أشهر وموت أبي طالب كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين لأنه كان قبل وفاة خديجة بثلاثة وقيل بخمسة أيام وكانت وفاتها بعد البعثة بعشر سنين على الصحيح فأبو طالب على هذا لم يدرك فرضية الصلاة نعم حكى القاضي عياض عن الزهري ورجحه النووي والقرطبي أن الإسراء كان بعد البعث بخمس سنين لكن قيل عليه ما قيل فليراجع.
والنهي قيل بمعنى المنع وعبر به إشارة إلى عدم اقتدار اللعين على غير ذلك وفي بعض الأخبار ما ظاهره أنه حصل منه نهي لفظي فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا...» الحديث والتعبير بما يفيد الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة والرؤية قيل قلبية وكذا في قوله تعالى: {أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} والمفعول الأول للأول الموصول وللثاني والثالث محذوف وهو ضمير يعود عليه أو اسم إشارة يشار به إليه والمفعول الثاني للثالث قوله سبحانه: {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} والأولان متوجهان إليه أيضاً وهو مقدر عندهما وترك إظهاره اختصاراً ونظير ذلك أخبرني عن زيدان وفدت عليه أخبرني عنه أن استخبرته أخبرني عنه إن توسلت إليه اما يوجب حقي وليس ذلك من التنازع لأن الجمل لا يصح إضمارها وإنما هو من الطلب المعنوي والحذف في غير التنازع وجواب الشرط في الجملتين محذوف لدلالة ألم يعلم عليه ويقدر حسبما تقتضيه الصناعة وقيل يدل عليه أرأيت مراداً به ما سيذكر قريباً إن شاء الله تعالى ويقدر كذلك والكلام عليه أيضاً نظير ما مر آنفاً والضمائر المستترة في {كان} وما بعد من الأفعال للناهي والمراد من أرأيت أخبرني فإن الرؤية لما كانت سبباً للعلم أجري الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها والاستفهام الواقع موقع المفعول الثاني هو متعلق الاستخبار هنا وهذا الإجراء على ما يفهم من كلام بعض الأئمة يكون مع الرؤية البصرية والرؤية القلبية وللنحاة فيه قولان والخطاب في الكل على ما اختاره جمع لكل من يصلح أن يكون مخاطباً ممن له مسكة وقيل للإنسان كالخطاب في {إلى ربك} [العلق: 8] وتنوين {عبداً} على ما هو ظاهر كلام البعض للتنكير وتقييد النهي بالظرف يشعر بأن النهي عن الصلاة حال التلبس بها وفصل بين الجمل للاعتناء بأمر التشنيع والوعيد حيث أشعر أن كل جملة مقصودة على حيالها فشنع سبحانه على الناهي أولاً بنهيه عن الصلاة وأوعد عليه مطلقاً بقوله تعالى: {أَرَءيْتَ الذى} [العلق: 9] إلخ أي أخبرني يا من له أدنى تمييز أو أيها الإنسان عمن ينهى عن الصلاة بعض عباد الله تعالى ألم يعلم بأن الله تعالى يرى ويطلع فيجازيه على ذلك النهي وشنع سبحانه عليه ثانياً بنهيه عن ذلك وأوعده عليه أيضاً على تقدير أنه على زعمه على هدى ورشد في نفس النهي أو أنه أمر بواسطته بالتقوى لأن النهي عن الشيء أمر بضده أو مستلزم له فقال تعالى شأنه: {أَرَءيْتَ إِن كَانَ} [العلق: 11] إلخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم أن الله يطلع فيجازيه إن كان على هدى ورشد في نفس النهي أو كان أمراً بواسطته بالتقوى كما يزعم وشنع جل شأنه عليه ثالثاً بذلك وأوعده عليه أيضاً على تقدير أنه في نفس الأمر وفيما يقوله تعالى مكذباً بحقية الصلاة متولياً عنها معرضاً عن فعلها بقوله تعالى: {أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ} [العلق: 13] إلخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم بأن الله تعالى يطلع على أحواله إن كذب بحقية ما نهى عنه وأعرض عن فعله على ما نقول نحن والحاصل أنه تعالى شنع وأوعد على النهي عن الصلاة بدون تعرض لحال الناهي الزعمي أو الحقيقي ثم شنع وأوعد جل وعلا عليه مع التعرض لحاله الزعمي ثم شنع عز وجل وأوعد عليه مع التعرض لحاله الحقيقي وهذا كالترقي في التشنيع والجمهور على عدم تقييد ما في حيز الشرطيتين بما ذكرنا حيث قالوا إن كان على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان أمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم وأكان مكذباً للحق ومتولياً عن الصواب كما نقول وذكر أن الشرط الثاني تكرار للأول لأن معنى الأول أنه ليس على الهدى وأوضح بأن إدخال حرف الشرط في الأول لإرخاء العنان صورة والتهكم حقيقة إذ لا يكون في النهي عن عبادته تعالى والأمر بعبادة الأصنام هدى البتة وفي الثاني لذلك والتهكم على عكس الأول إذ لا شك أنه مكذب متول فما لهما إلى واحد وقيل إن الرؤية في الجملة الأولى بصرية فلا تحتاج إلى مفعول ثان وفي الثانية والثالثة قلبية والمفعول الأول على ما تقدم والمفعول الثاني سد مسده الجملة الشرطية بجوابها وهو في الأخيرة {أَلَمْ يعلم} إلخ المذكور وفيما قبلها محذوف دل هو عليه ولم تعطف الأخيرة على ما قبلها للإيذان باستقلالها بالوقوع في نفس الأمر وباستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب وأما ما قبلها فأمر الشرط فيه ليس إلا لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريده عن الجواب والإحالة به على جواب الشرطية بعده والخطاب في الكل لمن يصلح له والتنوين في عبداً لتفخيمه عليه الصلاة والسلام واستعظام النهي وتأكيد التعجيب منه والمعنى أخبرني عن ذلك الناهي إن كان على الهدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى إلخ ما ذكر آنفاً ألم يعلم أن الله يرى ويطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل وقيل إن أرأيت في الجمل الثلاث من الرؤية القلبية والمفعول الأول للأولى الموصول ومفعولها الثاني الجملة الشرطية الأولى بجوابها المحذوف اكتفاءً عنه بجواب الشرطية الثانية إذ علم من ضرورة التقابل وأرأيت الثانية تكراراً للأولى وأرأيت الثالثة ومفعولها الأول محذوف للقرينة مستقلة لأنها تقابل الأولى للتقابل بين الشرطين يعني قوله تعالى: {إِن كَانَ} إلخ وقوله سبحانه: {أَن كَذَّبَ} إلخ وفي الإتيان بالجملة الأخيرة من دون العطف ترشيح للكلام المبكت وتنبيه على حقية الشرط ولهذا صرح بجوابه ليتمحض وعيداً والخطاب على ما تقدم أولاً والكلام من قبيل الكلام المنصف وإرخاءً لعنان ولذا قيل عبداً ولم يقل نبياً مجتبى فكأنه قيل أخبرني يا من له أدنى تمييز عن حال هذا الذي ينهى بعض عباد الله تعالى فضلاً عن النبي المجتبى عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان آمراً بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأصنام كما يزعم وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما تقول: {أَلَمْ يعلم} إلخ وقيل {أرأيت} في الجملتين الثانية والثالثة تكرار للأولى والشرطيتان بجوابهما سادتان مسد المفعول الثاني للأولى و{أَلَمْ يعلم} إلخ جواب الشرط الثاني وجواب الأول محذوف لدلالته عليه ولم يقل أو {أَن كَذَّبَ} إلخ لأنه ليس بقسيم لما قبله على ما قيل والمعنى على نحو ما سمعت وأورد على جميع هذه الأقوال إن في تجويز الإتيان بالاستفهام في جزاء الشرط من غير الفاء وإن صرح له الزمخشري في كشافه وارتضاه الرضي واستشهد له بقوله تعالى: {قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون} [الأنعام: 47] بحثاً لأن ظاهر نقل الزمخشري نفسه في المفصل ونقل غيره وجوب الفاء إذا كان الجزاء جملة إنشائية والاستفهام وإن لم يبق على الحقيقة لم يخرج على ما في (الكشف) من الإنشاء وقال أبو حيان إن وقوع جملة الاستفهام جواباً للشرط بغير فاء لا أعلم أحد أجازه بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه ما ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة أو شعر وقال الدماميني في شرح التسهيل إن جعل هل يهلك جزاء مشكل لعدم اقترانه بالفاء والاقتران بها في مثل ذلك واجب واعترض أيضاً جعل الجملة الشرطية في موضع المفعول الثاني لـ: {أرأيت} بأن مفعولها الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما نص عليه أبو حيان وجماعة أو قسمية كما في (الإرشاد) وقال الخفاجي إن جعل الشرطية في موقع المفعول والجملة الاستفهامية في موقع جواب الشرط إما على ظاهره أو على أنهما لدلالتهما على ذلك جعلا كأنهما كذلك لسدهما مسد المفعول والجواب وبما ذكر صرح الرضي والدماميني في شرح التسهيل في باب اسم الإشارة فما قيل من أن المفعول الثاني لـ: {أرأيت} لا يكون إلا جملة استفهامية مخالف لما صرحوا بأنه مختار سيبويه فلا يلتفت إليه ولم يجعلوا فيما ذكر الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للكافر الناهي لأن السياق مقتض لخروج الناهي والمنهي عن مورد الخطاب واستظهر في (البحر) جعله للنبي صلى الله عليه وسلم وجوز غيره جعله للكافر والمراد تصوير الحال بعنوان كلي وهو كما ترى وقيل الضميران في {أن كان} و{أمر} للعبد المصلي.
والضمائر في {كذب} و{تولى} و{يعلم} للذي ينهى وحاصل المعنى على ما قال الفراء أرأيت الذي ينهى عبداً يصلي والمنهي على الهدى وأمر بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا والظاهر أن جواب الشرط عليه محذوف وهو فما أعجب من ذا بقرينة أرأيت فإنه يفيد التعجب والرؤية فيه قيل علمية والمفعول الثاني محذوف نحو هذا الجواب وقيل بصرية و{أَلَمْ يعلم} إلخ جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وتأكيده وأو تقسيمية بمعنى الواو وقيل الخطاب في أرأيت الثانية للكافر وفي الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عز وجل كالحاكم الذي حضر الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى وكأنه سبحانه قال يا كافر أخبرني إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله تعالى أمر بالتقوى أتنهاه وأخبرني أيها الرسول إن كان الناهي مكذباً بالحق متولياً عن الدين الصحيح ألم يعلم بأن الله تعالى يجازيه وسكت هذا القائل عن الخطاب في أرأيت الأول فقيل لكل من يصلح له وقيل للإنسان وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم كالخطاب في الثالث وقوله أتنهاه يحتمل أنه جعله مفعولاً لرأيت ويحتمل أنه جواب الشرط وأو كما في سابقه ولعل ذكر الأمر بالتقوى في الجملة الثانية لأن النهي على ما قيل كان عن الصلاة والأمر بها وكان الظاهر عليه أن يذكر في الجملة الأولى أيضاً بأن يقال أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أو أمر بالتقوى لكنه حذف اكتفاء بذكره في الثانية واقتصر على ذكر الصلاة ولم يعكس لأن الأمر بالتقوى دعوة قولية والصلاة دعوة فعلية والفعل أقوى من القول وإنما كانت دعوة وأمراً لأن المقتدى به إذا فعل فعلاً كان في قوة قوله افعلوا هذا وقيل المذكور أولاً ليس النهي عن الصلاة بل النهي حين الصلاة وهو محتمل أن يكون لها أو لغيرها وعامة أحوال الصلاة لما انحصرت في تكميل أنفس المصلي بالعبادة وتكميل غيره بالدعوة فنهيه في تلك الحالة يكون عن الصلاة والدعوة معاً فلذا ذكر في الجملة الثانية انتهى فلا تغفل.
وجوز الإمام كون الخطاب في الكل له عليه الصلاة والسلام وقال في بيان معنى {أَرَءيْتَ إِن كَانَ} إلخ أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر نفسه أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة فلو اختار الرأي الصائب والاهتداء والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيراً له من الكفر بالله تعالى والنهي عن خدمته سبحانه وطاعته عز وجل كأنه تعالى يقول تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العلية وقنع بالمراتب الردية واعتبر عصام الدين هذه الجملة توبيخاً على تفويت ما ينفع وما بعدها توبيخاً على كسب ما يضر فقال إن قوله تعالى: {أَرَءيْتَ الذى} إلخ استشهاد لطغيان الإنسان إن رآه مستغنياً والرؤية بمعنى الإبصار أي أشاهدت الذي ينهى عبداً إذا صلى وعرفت طغيان الإنسان المستغني وأنه لا يكفي بكفرانه ويتجاوز إلى تكليف العبد الذي أرسل للمنع عن الكفران بالكفران وقوله سبحانه: {أَرَءيْتَ إِن كَانَ} إلخ توبيخ له على فوت ما لا يعلم كنهه بفوت الهدى والأمر بالتقوى يعني أعلمت أنه على أي فوز إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز وجل: {أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ} إلخ توبيخ له بما كسب من استحقاق العذاب والبعد عن رب الأرباب أي أعلمت أنه على أي عقوبة ومؤاخذة وقوله تعالى: {أَلَمْ يعلم} إلخ تهديد ووعيد شديد بعد التوبيخ على كسب حال الشقي وفوت حال السعيد انتهى وهو كما ترى فتأمل جميع ما تقدم والله تعالى بمراده أعلم.
ثم إن الآية وإن نزلت في أبي جهل عليه اللعنة لكن كل من نهى عن الصلاة ومنع منها فهو شريكه في الوعيد ولا يلزم على ذلك المنع عن النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه في الحقيقة ليس عن الصلاة نفسها بل عن وصفها المقارن ولشدة الاحتياط تحاشي بعضهم عن النهي مطلقاً فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلي أقواماً يصلون قبل صلاة العيد فقال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقيل له رضي الله تعالى عنه ألا تنهاهم فقا لرضي الله تعالى عنه أخشي أن أدخل تحت وعيد قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} وفي رواية لا أحب أن أنهي عبداً إذا صلى ولكن أحدثهم بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سلك نحو هذا المسلك أبو حنيفة عليه الرحمة فقد روي أن أبا يوسف قال له أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي فقال يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ويقاس على النهي عن الصلاة النهي عن غيرها من أنواع العبادة ولا فرق بين النهي القالي والنهي الحالي ومنه أن يشغل المرء المرء عن ذلك وقد ابتلي به كثير من الناس. اهـ.